كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ولقد مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} أي: مكنّا عادًا. وآتيناهم من كثرة الأموال وقوة الأجسام. فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا. على أن: إن شرطية محذوفة الجواب. والتقدير: ولقد مكناهم في الذي. أو في شيء. إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر. وقيل: هي صلة كما في قوله:
يُرَجَّى الْمَرْءُ مَاْ إِنْ لَاْ يَرَاْهُ ** وَيَعْرِضُ دُوْنَ أَدْنَاْهُ الْخُطُوْبُ

قال الزمخشري: والوجه هو الأول. ولقد جاء عليه في غير آية في القرآن: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74]. {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا} [غافر: 82] وهو أبلغ في التوبيخ. وأدخل في الحث على الاعتبار.
قال الناصر: واختص بهذه الطائفة قوله تعالى: {وَقالوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَولم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هو أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. وقوله: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] أي: والأصل توافق المعاني في الآي الواردة في نبأ واحد. على ما فيه أيضًا من سلامة الحذف. والزيادة.
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} قال الطبري: أي: جعلنا لهم سمعًا يسمعون به مواعظ ربهم. وأبصارًا يبصرون بها حجج الله. وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم. وينفعهم {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ} أي: لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له. بل في خلافه: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بآيات اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} أي: من العذاب.
قال الطبري: وهذا وعيد من الله عز وجل ثناؤه. لقريش. يقول لهم: فاحذروا أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله. وتكذيبكم رسله. ما حلّ بعاد. وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
لطيفة:
قال الشهاب: أفرد السمع في النظم. وجمع غيره. لاتحاد المدرك به. وهو الأصوات. وتعددت مدركات غيره. ولأنه في الأصل مصدر. وأيضًا مسموعهم من الرسل متحد.
{ولقد أَهْلَكْنَا مَا حولكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [27].
{ولقد أَهْلَكْنَا مَا حولكُم} أي: ما حول قريتكم يا أهل مكة: {مِّنَ الْقُرَى} أي: كجحر ثمود. وأرض سدوم. ومأرب ونحوها. فأنذرنا أهلها بالمثلات. وخربنا ديارها. فجعلناها خاوية على عروشها: {وَصَرَّفْنَا الآيات} أي: وعظناهم بأنواع العظات. وبيّنا لهم ضروبًا من الحجج: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: عن الكفر بالله ورسله. قال الطبري: وفي الكلام متروك. ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه. وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم. والتمادي على غيّهم. فأهلكناهم. فلم ينصرهم منا ناصر.
{فَلولا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا الِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [28].
{فَلولا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا الِهَةً} أي: فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم. أوثانهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقربون بها. فيما زعموا. إلى ربهم إذ جاءهم بأسنا. فتنقذهم من عذابنا. إن كانت تشفع لهم عند ربهم. كما قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي: غابوا عن نصرهم. وامتنع أن يستمدوا بهم. امتناع الاستمداد بالضالّ ففي: {ضَلُّوا} استعارة تبعية: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي: ضياع الهتهم عنهم. وامتناع نصرهم إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها الهة {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: وإثر افترائهم في أنها شفعاؤهم.
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولوا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قالوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمنوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وليس لَهُ مِن دُونِهِ أوليَاء أولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [29- 32].
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} أي: أملناهم إليك. وأقبلنا بهم نحوك: {يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُوا} أي: ليتم التدبر والتفكر: {فَلَمَّا قُضِيَ} أي: فرغ من قراءته. كمل تأثيرهم به. فأرادوا التأثير به. لذلك: {ولوا} أي: رجعوا: {إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} أي: عما هم فيه من الضلال {قالوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} أي: المتفق على تعظيم كتابه. أي: وقد علمنا صدقه لكونه: {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من هذه الكتب كلها. وقد فُضّل عليها إذ: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} أي: معرفة الحقائق: {وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: لا عوج فيه. وهو الإسلام.
قال ابن كثير: أي: يهدي إلى الحق في الاعتقاد والأخبار. وإلى طريق مستقيم في الأعمال. فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب. فخبره صدق. وطلبه عدل. كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] وقال تعالى: {هوالَّذِي أَرْسَلَ رسوله بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33]. فالهدى هو العلم النافع. ودين الحق هو العمل الصالح. وهكذا قالت الجن: يهدي إلى الحق في الاعتقادات. وإلى طريق مستقيم. أي: في العمليات {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أي: رسول الله محمدًا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله {وَآمنوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي: بمعجز ربّه. بهربه إذا أراد تعالى عقوبته؛ لأنه في قبضته وسلطانه. أنّى اتجه {وليس لَهُ مِن دُونِهِ أوليَاء} أي: نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه {أولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي: أخذ على غير استقامة.
تنبيهات:
الأول- روى الإمام مسلم عن علقمة قال: سألت ابن مسعود رضي الله عنه: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا. ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه. فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقيل: استطير. اغتيل! قال: فبتنا بشرّ ليلة بات فيها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حِراء. قال: فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك. فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: «أتاني داعي الجن. فذهبت معهم. فقرأت عليهم القرآن» قال: فانطلق بنا. فأرانا آثارهم.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي. فيسمعون الكلمة. فيزيدون فيها عشرًا. فيكون ما سمعوا حقًا. وما زادوا باطلًا. وكانت النجوم لا يُرمى بها قبل ذلك. فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب. فشكوا ذلك إلى إبليس. فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث. فبثّ جنوده. فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي بين جبلي نخلة. فأتوه فأخبروه. فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما. وهكذا قال الحسن البصري: إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم.
وذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف. ودعائه إياهم إلى الله عز وجل. وآبائهم عليه. فذكر القصة بطو لها. ثم قال: فلما انصرف عنهم. بات بنخلة. فقرأ تلك الليلة من القرآن. فاستمعته الجن من أهل نصيبين. قال ابن كثير: وهذا صحيح. ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة. فيه نظر؛ فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الآيحاء. كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور. وخرُوجُه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه. وذلك قبل الهجرة بسنة أوسنتين. كما قرره ابن إسحاق وغيره.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة. فلما سمعوه قالوا: أنصتوا. فأنزل الله عز وجل عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} الآية. قال ابن كثير: فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما. يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة. وإنما استمعوا قراءته. ثم رجعوا إلى قومهم. ثم بعد ذلك وفدوا إليه إرسالا: قومًا بعد قوم. وفوجًا بعد فوج. فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعًا عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقًا: من اذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك- يعني ابن مسعود رضي الله عنه- أنه اذنته بهم شجرة. فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى. ويكون إثباتًا مقدمًا على نفي ابن عباس رضي الله عنهما. ويحتمل أن يكون في الأولى. ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى اذنته بهم الشجرة. أي: أعلمته باجتماعهم. ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات. والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلمت حاله. وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم. ولم يرهم. ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن. فقرأ. عليهم القرآن. ودعاهم إلى الله عز وجل- كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه-.
ثم قال ابن كثير: وأما ابن مسعود رضي الله عنه. فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن. ودعائه إياهم. وإنما كان بعيدًا منه. ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه. ومع هذا. لم يشهد حال المخاطبة. هذه طريقة البيهقي. وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم. لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ولا غيره. كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام مسلم. ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى- والله أعلم- كما روى ابن أبي حاتم في تفسير: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} من حديث ابن جريح قال: قال عبد العزيز بن عُمَر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى. وأما الجن الذين لقوه بمكة. فجن نصيبين.
وتأول البيهقي قوله: فبتنا بشرّ ليلة. على غير ابن مسعود. ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن. وهو محتمل. على بُعدٍ. وبالجملة. فقد روي ما يدل على تكرار ذلك. وقد روي عن ابن عباس غير ما روي عنه أولا من وجه جيد عن ابن جرير في هذه الآية. قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين. فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلًا إلى قومهم. فهذا يدلّ على أنه قد روى القصتين. وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كانوا أكثر الجن عددًا. وأشرفهم نسبًا. وعن ابن مسعود أنهم كانوا تسعة. ويروى أنهم كانوا خمسة عشر. وروي ستين. وروي ثلاثمائة. وعن عِكْرِمَة أنهم كانوا اثني عشر ألفًا. قال ابن كثير: فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري في (صحيحه) أن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه لشيء قط يقول: إني لأظنه هكذا. إلا كان كما يظن. بينما عُمَر بن الخطاب جالس. إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني. أوإن هذا على دينه في الجاهلية. أولقد كان كاهنهم. عليّ الرجل. فدعي له. فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني!
قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينا أنا يومًا في السوق. جاءتني أعرف فيها الفزع. فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها. و لحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق! بينما أنا نائم عند الهتهم. إذ جاء رجل بعجل فذبحه. فصرخ به صارخ. لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه. يقول: يا جليح! أمر نَجِيْح. رجل فصيح. يقول: لا إله إلا الله. قال فوثب القوم. فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمر نَجِيْح. رجل فصيح. يقول: لا إله إلا الله. فقمت. فما نشبنا أن قيل: هذا نبي- هذا سياق البخاري- وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه.
ثم قال: وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح. وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه. وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه- والله أعلم-.
وهذا الرجل هو سواد بن قارب.
قال البيهقي: وسواد بن قارب يشبه أن يكون هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح. ثم روى بسنده عن البراء قال: بينما عُمَر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال. فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال. فقلت: يا أمير المؤمنين! وما سواد بن قارب؟ قال. فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئًا عجيبًا! قال: فبينما نحن كذلك. إذ طلع سواد بن قارب.
قال. فقال له عمر: يا سواد! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟. قال سواد: فإني كنت نازلًا بالهند. وكان لي رَئِيٌّ من الجن. قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك. قال: قم فافهم. واعقل إن كنت تعقل! قد بعث رسول من لؤي بن غالب. ثم أنشأ يقول:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَحْسَاْسِهَاْ ** وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَحْلَاْسِهَاْ

تَهويْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ ** مَاْ خيَّرُ الْجِنَّ كَأَنْجَاْسِهَاْ

فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ ** وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ رَاْسِهَاْ

قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال: يا سواد بن قارب! إن الله عزّ وجل بعث نبيًا. فانهض إليه تهتد وترشد. فلما كان من الليلة الثانية. أتاني فأنبهني. ثم أنشأ يقول:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَاْ ** وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَقتَاْبِهَاْ

تَهويْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ ** وليس قُدْمَاْهَاْ كَأَذْنَاْبِهَاْ

فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ ** وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ قَاْبِهَاْ

فلما كان في الليلة الثالثة. أتاني فأنبهني. ثم قال:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَخْبَاْرِهَاْ ** وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَكْوَاْرِهَاْ

تَهويْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ ** وليس ذَو والشَّرِّ كَأَخْيَاْرِهَاْ

فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ ** مَاْ مُؤْمِنُوالْجِنِّ كَكُفَّاْرِهَاْ

قال: فلما سمعه تكرر ليلة بعد ليلة. وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله. قال: فانطلقت إلى رحلي. فشددته على راحلتي. فما حللت نسعة. ولا عقدت أخرى. حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا هو بالمدينة- يعني مكة- والناس عليه كعرف الفرس. فلما راني النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مرحبًا بك يا سواد بن قارب. قد علمنا ما جاء بك». قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعرًا. فاسمعه مني! قال صلى الله عليه وسلم: «قل يا سواد». فقلت:
أَتَاْنِيْ رَئِيِّيْ بَعْدَ لَيْلٍ وَهَجْعَةٍ ** ولم يَكُ فِيْمَا قَدْ بَلَوْتُ بِكَاْذِبِ

ثَلَاْثَ لَيَاْلٍ. قوله كُلَّ لَيْلَةٍ ** أَتَاْكَ رسول مِنْ لُؤَيَّ بْنِ غَاْلِبِ

فَشَمَّرْتُ عَنْ سَاْقِيْ الْإِزْاَرِ ووسَّطَتْ ** بِي الدِّعْلِبُ الْوَجْنَاْءُ بَيْنَ السَّبَاْسِبِ

فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَاْ رَبَّ غَيْرَهُ ** وَأَنَّكَ مَأْمُوْنٌ عَلَىْ كُلِّ غَاْئِبِ

وَأَنَّكَ أَدْنَى الْمُرْسَلِيْنَ وَسِيْلَةً ** إِلَىْ اللَّهِ. يَا ابْنَ الْأَكْرَمِيْنَ الْأَطَاْيِبِ

فَمُرْنَاْ بِمَاْ يَأْتِيْكَ يَاْ خَيْرَ مُرْسَلٍ ** وَإِنْ كَاْنَ فِيْمَاْ جَاْءَ شَيْبَ الذَّوَاْئِبِ

وَكُنْ لِيْ شَفِيْعًا يَوْمَ لَاْ ذُوشَفَاْعَةٍِ ** سِوَاْكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوَاْدِ بْنِ قَاْرِبِ

قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وقال لي: أفلحت يا سواد! فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الأن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني. ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن. ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين. انتهى كلام ابن كثير.